داغ همرشولد.. صوت السلام الذي يحتاج إليه العالم

داغ همرشولد.. صوت السلام الذي يحتاج إليه العالم
داغ همرشولد

أحيت الأمم المتحدة الذكرى الرابعة والستين لوفاة أمينها العام الأسبق داغ همرشولد، مستذكرة إرثه الباقي في صناعة السلام والسعي نحو عالم أفضل خالٍ من النزاعات والحروب، عالمٍ يصون حق الإنسان في الحياة والكرامة، وقد وصفه الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريش بأنه "قائد ذو قدرة ونزاهة وقناعة استثنائية، ورجل ذو التزام راسخ برؤية وقيم منظمتنا"، في إشارة إلى بصمته العميقة في تاريخ الدبلوماسية الدولية.

تاريخ مهني حافل

كان داغ همرشولد أصغر شخصية تتولى منصب الأمين العام في تاريخ الأمم المتحدة؛ فعندما انتُخب عام 1953، لم يكن قد تجاوز السابعة والأربعين من عمره، وُلد عام 1905 في السويد لأسرة عُرفت بخدمة الشأن العام وممارسة السياسة، جمع بين خلفية أكاديمية صلبة وتكوين عملي متدرج؛ إذ درس القانون في جامعة أوبسالا، ثم نال درجة الماجستير في الاقتصاد عام 1930، وأتبعها بدرجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي عن أطروحته "اقتصاديات الأزمات".

تدرج همرشولد في القطاع المصرفي السويدي، حيث عمل سكرتيراً للبنك المركزي بين عامي 1935 و1941، ثم أصبح رئيساً لمجلسه العام حتى عام 1948، قبل أن يمثل بلاده في عدد من المؤسسات الدولية، الأمر الذي صقل خبرته وأهّله لاحقاً للعب أدوار بارزة على الساحة العالمية.

في 31 مارس 1953 رشحه مجلس الأمن الدولي بأغلبية 10 أصوات من أصل 11 لمنصب الأمين العام، وفي 7 أبريل انتخبته الجمعية العامة بأغلبية 57 صوتاً من أصل 60، ليبدأ بذلك مرحلة جديدة من مسيرة المنظمة. وبعد أربع سنوات، جددت الدول الأعضاء ثقتها فيه وأعيد انتخابه عام 1957.

مع بداية ولايته، برز أسلوبه العملي والهادئ، حيث نجح في التفاوض على إطلاق سراح عدد من الطيارين الأمريكيين المحتجزين في الصين منذ الحرب الكورية، واعتبر ذلك "هدية عيد ميلاد" قدمتها له بكين عام 1955، وسرعان ما ارتبط اسمه بما عُرف لاحقاً بـ"الدبلوماسية الهادئة"، وهي مقاربة سعت إلى معالجة النزاعات بعيداً عن الضجيج الإعلامي والصدام العلني.

أزمات دولية

تزامنت فترة همرشولد مع حقبة مضطربة من التاريخ الدولي عاصر فيها أزمة السويس بمصر عام 1956، والاضطرابات في لاوس والجزائر، والثورة العراقية عام 1958، ووصول فيدل كاسترو إلى السلطة في كوبا، والانتفاضة الدموية في المجر، ثم أزمة الكونغو التي شكلت التحدي الأكبر في حياته.

في أزمة السويس تحديداً، نجح همرشولد في إقناع الدول الأعضاء بإنشاء أول قوة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة، مكونة من قوات دول محايدة، كأداة مبتكرة لاحتواء النزاعات ومنع تفاقمها، كما أسس تقليداً دائماً بإيفاد بعثات لتقصي الحقائق، في محاولة لجعل المنظمة مرجعاً للحقيقة بعيداً عن دعايات القوى المتصارعة. وكان يرى أن وظيفة الأمم المتحدة حماية الدول الصغيرة والنامية من ضغوط وتلاعب القوى الكبرى، وهو ما جعله في أحيان كثيرة في مواجهة غير مباشرة مع مراكز النفوذ العالمي.

مع استقلال الكونغو عن بلجيكا عام 1960، انفجرت الأزمة السياسية والأمنية في البلاد، وتحولت سريعاً إلى ساحة صراع بالوكالة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وقف همرشولد أمام تحدٍ بالغ الخطورة، فسارع إلى إرسال أكبر بعثة لحفظ السلام في تاريخ المنظمة آنذاك، بهدف منع التدخلات الأجنبية وحماية وحدة الكونغو والحيلولة دون انزلاقها إلى حرب مفتوحة، لكن جهوده اصطدمت بمصالح القوى الكبرى وشبكات النفوذ الإقليمي، وظل يتنقل بين العواصم بحثاً عن تسوية تحقن الدماء.

رحيل وصدمة عالمية

وفي سبتمبر 1961، وبينما كان في طريقه إلى محادثات سلام في شمال روديسيا (زامبيا حالياً)، لقي مصرعه في حادث تحطم طائرة ما زالت ظروفه غامضة حتى اليوم، إذ ارتبطت به فرضيات متعددة تراوحت بين الخطأ الفني والتخطيط المدبر.

رحيل همرشولد شكّل صدمة عالمية، لكنه رسّخ صورته كقائد آمن بأن وظيفة الأمين العام لا تنحصر في إدارة البيروقراطية الأممية، بل تتجاوزها لتجعل منه "ضمير البشرية"، فقد كان يرى أن السلام لا يُبنى بالمعاهدات وحدها، بل بخلق ثقة متبادلة وحماية المستضعفين في وجه منطق القوة.

اليوم، وبعد أكثر من ستة عقود على رحيله، لا يزال إرث داغ همرشولد حاضراً، تستعيده الأمم المتحدة كلما تصاعدت النزاعات أو اتسعت رقعة الحروب، فهو بالنسبة لكثيرين ليس مجرد اسم في سجل الأمناء العامين، بل رمز لرؤية إنسانية في زمن الانقسامات، ورجل جسّد فكرة أن القيادة الدولية هي في جوهرها خدمة للسلام العالمي وحماية للكرامة الإنسانية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية